الوعي في الجري

الوعي في الجري

في هذا العالم المتسارع، حيث يُلهينا الركض خلف الأهداف عن عذوبة الخطى، ليس غايته الوصول، بل الحضور. لا يُشبه الجري الواعي الركض من أجل حرق السعرات أو تسجيل الأرقام، بل هو فعل حبّ، طقسٌ من طقوس الانغماس في اللحظة، إنه "سعيٌ بلا سعي"، و"حركةٌ تسكن فيها الروح"

كما قال محيي الدين بن عربي:

"ليس الشأن أن ترى الطريق، بل أن تسير فيه حتى تنسى أنك تسير"

وهنا تمامًا تكمن روح الجري الواعي: أن تنسى كل ما سِوى، أن تنصت لصوت نَفَسك كأنه ترتيل، وتُصغي لخطاك كأنها وِردٌ سري. كل خطوة تصبح صلاة، كل شهيق تنهيدة عارف، وكل زفير تسليم تام.الجسد بوابة الروح

حين تركض بوعي، لا تركض بأقدامك فقط، بل بروحك. يصبح الجسد خفيفًا، كأنك تخلع عنه "الرداء الطيني"، ذاك الذي يثقل القلب ويجعل الروح حبيسة. قال أحد العارفين

"وليس يُعانِقُ قلبٌ قلبًا، حتى يُخْلَعَ عنْهُ الرِّداءُ الطِّينيُّ."

وحين تتخفف من هذا الرداء أثناء الجري، يصبح قلبك رقيقًا، شفافًا، قادرًا على العناق؛ عناق الحياة، عناق الكون، عناق الذات.الجري كصحوة روحية

الجري الواعي ليس هروبًا، بل حضور. يقول أوشو

"اللحظة هي الحياة. لا تعش في الأمس، لا تنتظر الغد، فقط كن الآن، هنا"

وأي لحظة تحقّق هذا "الآن" مثل لحظة الركض؟ حين تشرق شمس الصباح وتنساب خطواتك على الأرض، تشعر أنك جزء من إيقاع كوني، كأنك راقص في رقصة لا بداية لها ولا نهاية. تتلاشى الحدود بينك وبين الأشجار، بينك وبين الريح، بينك وبين الله.

قال فريد الدين العطار

"كلّ من لم يمت في الطريق، ما ذاق طَعم الحياة."

والموت هنا ليس الموت الجسدي، بل الموت عن التشتت، عن الأنا، عن الانفصال. إنك وأنت تركض، تموت عن أوهامك وتُبعث من جديد في لحظة الحضور

طقوس الجري الواعي على طريقة "اليقطين"

إن "طريقة اليقطين" ليست مجرّد فلسفة، بل أسلوب حياة. فهي تدعو إلى أن نجعل الجري طقسًا يوميًا لشفاء الروح، لفهم الذات، ولكسر قيود العقل. أن تخرج كل صباح لا بحثًا عن رقم، بل بحثًا عن أثر. تبحث عن أثركَ في قلب اللحظة.

ابدأ ركضك بهمس نية: "يا رب، اجعلني أراك في كل خطوة"
استنشق الهواء كأنك تشرب من نهرٍ طاهر
واسمح لأفكارك أن تتبخر مع عَرَقك
واجعل من عينيك نوافذ لترى الجمال لا المألوف
ولا تنسَ أن تُنصت… ففي كل صوت زقزقة، في كل خفقة قلب، هناك رسالة من الغيب

ما الذي يجعل الجري مختلفًا؟

إن الرياضات الأخرى قد تُلهيك عن ذاتك، أما الجري الواعي فيقودك إلى ذاتك. فهو حالة من التأمل المتحرك، حيث "السرّ في السعي، لا في النهاية". كما قال الشيخ أبو يزيد البسطامي

"رأيت ربي في المنام، فقلت: كيف الوصول إليك؟ فقال: دع نفسك وتعال."

والجري هو دعوة مستمرة لترك النفس القديمة في كل خطوة، والولادة من جديد في كل لحظة

الوعي لا يأتي إلا بالسكون في الحركة

قد يبدو الجري فعلاً صاخبًا، لكنه في جوهره سكون عميق. إنه نوع من السُكر الصافي… لا تحتاج فيه إلى موسيقى، لأن نبضك هو اللحن، ونَفَسك هو الإيقاع.

ابن عربي وصف هذه الحالة حين قال

"العين لا ترى الشيء على ما هو عليه، حتى تفنى عن نظرها إليه."

وحين تركض وتفنى عن ذاتك، ترى الأشياء كما هي: الشجر، السماء، الطير، وحتى وجعك... تصبح كلها معاني، لا مجرد أشياء

من الركض إلى العروج

العارفون يقولون إن لكل سلوك في الظاهر مرآة في الباطن. فالجري في الظاهر هو حركة أقدام، وفي الباطن هو صعود الأرواح. هو ارتقاء، عروج، تحليق. وهو لمن عرف، باب من أبواب الفتح.

لماذا نحتاج الجري الواعي اليوم؟

لأننا فقدنا الإحساس باللحظة. أصبحنا نعيش في رؤوسنا أكثر مما نعيش في قلوبنا. نُخطّط أكثر مما نُحب، نركض خلف المستقبل بدل أن نحتضن الحاضر

الجري الواعي يُذكّرك أن "الآن" كافٍ. أن قلبك إن كان حاضرًا، فإنك لا تحتاج شيئًا سوى هذه الخطوة… ثم الأخرى.

قال أحد مشايخ التصوف

"لو عَلِمتَ ما في اللحظة من سرّ، لخلعتَ همَّ الغد، وبكيتَ من جمال الآن."


أيها القارئ، لا تجعل الجري مجرّد رياضة، بل اجعله طريقًا
اجعل منه وسيلتك لبلوغ القلب، لا فقط الجسد
اهرب من ضجيج التفكير، وسلّم زمامك للخطوة
أحبَّ الحياة، لا من فوقها، بل من داخلها… واجعل من كل طلعة شمس موعدًا جديدًا مع ذاتك

أركض كأنك تتلو دعاء
أركض كأنك عاشق يبحث عن حضن معشوقه
أركض كأنك زهرة تطلب ماء الحياة
واجعل خطاك قصيدة، ووجهتك: الله