مركب من فراغ

يظنّ كثيرون أنّ الفراغ فراغٌ حقًا: مساحة باردة، لا جدوى منها، وكأنّها هوّة تسحبنا نحو العدم. لكن الحقيقة أنّ الفراغ رحمٌ خفيّ يولد فيه الجديد. في سكونه يصفو البصر، وفي صمته تسمع نبض قلبك لأول مرة بلا ضوضاء. كل فكرة عظيمة، كل مشروع، كل قصة حبّ أو توبة أو ولادة… بدأ من لحظة فراغ؛ حين لم يكن هناك شيءٌ سوى الرغبة بأن يكون هناك شيء

إنّ اللحظة التي تقول فيها: "لا أملك شيئًا" هي ذاتها اللحظة التي تمتدّ أمامك مساحةٌ لا حدود لها لتصنع منها كل شيء. الفراغ هو تلك اللحظة بعد خسارة موجعة، أو بعد نهاية علاقة، أو بعد استقالة أو مرض… يبدو كأنّك بلا وجهة، بلا عنوان. لكنه في حقيقته فسحة غير مرئية يتيحها الله لك كي تُعيد ترتيب أمتعتك، كي تتخفف من حملٍ ثقيل، كي تراجع نفسك بعيدًا عن الضوضاء. النجوم تحتاج عتمة السماء لتلمع، والبذرة تحتاج ظلام التربة لتشقّ طريقها نحو الضوء، وكذلك نحن نحتاج فراغًا لنبدأ

لن تحتاج إلى خشب وحديد لتصنع مركبك، بل إلى عناصر غير ملموسة: الإرادة، الشرارة الأولى التي تقول "سأمضي". الخيال، الأفق الذي يريك المركب قبل أن يوجد. الإيمان، الريح التي تدفع شراعك حين تهدأ المياه. والمرونة، الحبال التي تربط أجزاء المركب فلا تتفكّك عند أول موجة. كلّ هذه العناصر تولد في داخلك، لا في السوق ولا في الورش. هذا هو سرّ المركب المصنوع من فراغ

لا تنتظر اللحظة المثالية ولا المال الكافي، بل اصنع أول خطوة الآن. اكتب ما تريد أن تصل إليه. ضع قائمة بأبسط الخطوات، ولو كانت خطوةً صغيرة كأن ترتدي حذاء الجري، أو تفتح صفحة بيضاء في دفتر. كل خطوة صغيرة هي لوح خشب يُضاف إلى مركبك. السفن العظيمة لم تُبنَ في يوم، بل من ألواح متفرقة وقطع حبال جُمِعت بحبّ وصبر

قد تظن أنّ الطريق ما زال بعيدًا، لكنك في الحقيقة بدأت الرحلة بالفعل، فكل فكرة وكل خطوة صغيرة هي لوح خشب جديد في مركبك. وحين تمدّ يدك الآن، ستكتشف أنّ المركب كان في داخلك منذ البداية. لا تخف من البداية من الصفر؛ الصفر دائرة مكتملة، بابٌ نحو كل الأرقام

إذا شعرت أنّ حياتك فراغ… فابتسم: لقد حان وقت الإبحار

Next
Next

اليقطين مشعل الفرج: صانع التحولات الرقيقة نحو عالم الحب وعيش اللحظة