قبلة الارتقاء

الارتقاء ليس صعودًا إلى مكان، ولا انتقالًا جسديًا من مقام إلى آخر، بل هو حركة هادئة في باطن الإنسان، رجوعٌ تدريجي إلى نقاءٍ قديم كان ساكنًا في الأعماق. وفي هذا الطريق الطويل، حيث المقامات تتبدّل والأحوال تتقلب، يتعلم السالك أن كل درجة تمسّه تترك فيه أثرًا، وأن كل مقام يعبره يستحق لحظة احترام قبل الرحيل عنه. تلك اللحظة يسمّيها العارفون: قبلة الارتقاء.

قبلة لا تُوضع على وجه، ولا تُوجَّه إلى غيب، إنما هي إيماءة خفية يتركها السالك على عتبة المقام الذي عبره. قبلة امتنان هادئة، تُشبه لمسَة شكر على درسٍ غيّر شيئًا في الداخل، وجعل النفس أكثر أهلية للصعود الذي يليه

منذ أن نادى الله تعالى في كتابه الكريم

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ
بدأت الهجرة الكبرى
هجرة لا تقطعها الأقدام، بل يقطعها القلب حين يتحرّر من ضجيجه ويتوجه نحو المعاني العليا. وفي هذه الهجرة تتفتح نوافذ المقامات، كل نافذة تضيء قدرًا من الضوء، وكل ضوء يوسّع البصيرة شيئًا فشيئًا

الارتقاء في جوهره ليس ارتفاعًا عموديًا، بل انكشافٌ داخلي
كل مقام يبلغه السالك يعيده إلى جزء منه كان غائبًا عنه
شيء من طفولته الروحية
شيء من فطرته الأولى
شيء من صدقه القديم
لذلك فإن أجمل الارتقاءات ليست تلك التي تحدث أمام الناس، بل تلك التي تحدث في صمت القلب

حين يدخل السالك مقام الصبر، يكتشف أن الصبر ليس احتمالًا قاسيًا، بل فهمًا عميقًا لتموّج الأقدار. أنه في لحظات الألم يتربى القلب، وفي لحظات الانتظار تُصنع الحكمة. وعندما يتجاوز هذا المقام، يضع عليه قبلة صغيرة، قبلة اعتراف بأنه تعلّم منه شيئًا لا يُنسى

ثم يعبر إلى مقام الرضا، حيث تستوي الروح مع التقدير الإلهي، فلا تعارض ولا تذمر، بل فهم عميق أن الأحداث تأتي ومعها دروسها. وعندما يهدأ داخله ويستقر في هذا المقام، يترك قبلة رقيقة تشبه ابتسامة شُكر

ثم يدخل مقام الحكمة، وحين تشرق الحكمة في القلب يتغير وجه العالم. يصبح لكل حدث معنى، ولكل لقاء سبب، ولكل ألم رسالة. الحكمة مقامٌ يحتاج صبرًا، ويحتاج قلبًا لا يحكم الأشياء من ظواهرها. وعندما يتجاوزه السالك، يترك قبلة امتنان لهذا النور الذي فتح له بابًا من الفهم الجديد

ويصل السالك بعد ذلك إلى مقام البصيرة، حيث يرى الأشياء من داخلها. يرى ضعف النفس فيتواضع، ويرى جمال الرحمة فيطمئن، ويرى لطف الله فيمتلئ يقينًا. وفي هذا المقام، يعرف السالك أن الطريق ليس سعيًا نحو الخارج، بل سعي نحو النقاء الداخلي. وعندما يغادره، يترك عليه قبلة تعترف بعظمته

هكذا يتنقّل السالك بين المقامات، لا يقيم في واحد منها، ولا يدّعي امتلاكها، بل يمرّ بها كما تمرّ الريح اللطيفة بين الأغصان؛ تُهذبها دون أن تقطعها. فالمقامات ليست مساكن ثابتة، بل محطات مؤقتة تُعيد تشكيل النفس في طريقها إلى الصفاء

قبلة الارتقاء هنا ليست فعلًا جسديًا، بل هي لغة روحية، تقول ما لا يُقال بالكلمات
هي توقيعٌ رقيق على صفحة من صفحات النفس
هي ختم يُثبت أن الإنسان عبر مرحلة من رحلته بصدق، وتعلّم منها، ونوى أن يرتفع بما بعدها

ومع كثرة المقامات، يبدأ قلب السالك يلين ويصفو
يبدأ يرى نفسه أخفّ، وأعمق، وأقرب إلى أصلها
يصبح أكثر رحمة، أكثر حكمة، أكثر سلامًا
يصبح حاضرًا مع الحياة دون أن يضيع فيها، ومتوازنًا دون أن يتجمّد، ورقيقًا دون أن ينكسر

وحين يكتمل مقامٌ ما، لا يتشبث به السالك، ولا يغتر بأنه بلغ، بل يأخذه بالأدب الذي يليق بطريق الروح. يقف، يتنفس، يبتسم، ثم يضع قبلة ارتقاء. قبلة تقول
«لقد فهمت، وتغيّرت، وحان الوقت أن أواصل طريقي»

قبلة الارتقاء ليست نهاية الرحلة، بل نهاية كل مرحلة
هي لحظة وداع مهذّبة للمقام الذي أتمّ دوره
وختم صغير على بابٍ مضيء
يُفتح بعده بابٌ أوسع

السالك الحقيقي ليس ابن مقام واحد
بل ابن طريق طويل
طريق لا ينتهي عند قمة
بل ينتهي بأن يصبح هو نفسه قمة
يمشي عليها النور

وفي كل مرة يطوي مقامًا
يترك خلفه قبلة ارتقاء…
قبلة تُشبه شهادة عبور
أو أثرًا لطيفًا على جدارٍ أدّى مهمته
ومع كل قبلة، يولد في القلب مقام جديد
وتستعد الروح لارتفاع آخر…
حتى يصير الارتقاء أسلوب حياة
وتصير النفس سماءً صغيرة تمشي على الأرض

وهكذا
تكتمل معنى قبلة الارتقاء
لمسة امتنان لكل مقام
وخطوة ثابتة نحو مقام أصفى
وصعود هادئ نحو إنسان أجمل مما كان

Next
Next

قبلة الوداع – تلك الأرواح الجميلة لا تغادرنا وإن غادرت الحياة