ريشة الطاووس الأخيرة

رحلة من الأنا إلى صفاء الروح

الحكاية التي تهمس للروح

يُحكى أنّ الطاووس، في أوجِّ مجده، أدرك أنّ كلّ ريشة من أجنحته كانت تحمل شيئًا من غروره، وكلّ نظرة إلى ألوانه كانت تُثقِل قلبه بالتفاخر. وفي لحظة صدقٍ مع نفسه، جلس يتأمّل الريشة الأخيرة التي بقيت بعد أن تناثر عنه الزهو، وقال لها: لعلّك أنتِ بوابتي إلى الحرية
هكذا بدأت ريشة الطاووس الأخيرة تتحوّل من مجرّد زينة إلى رمزٍ لتحرر الإنسان من قيد الأنانية، وعتبةٍ يعبر من خلالها القلب نحو الصفاء

إنَّ اللهَ لا يُحبُّ المُستَكبِرين – [القرآن الكريم، النحل:23]

هذه المقالة ليست عن الطاووس وحده، بل عن كلّ واحدٍ منّا حين نقرر أن نُسقط عن أكتافنا عباءة الكِبر، ونترك وراءنا كل ما أثقل الروح

حين تُرهقنا الألوان

نولد في هذا العالم كصفحة بيضاء، ثم نبدأ في جمع ألوان الآخرين: رضاهم، نظراتهم، تصفيقهم. شيئًا فشيئًا نصبح كطاووسٍ يُفتَتن بريشه حتى ينسى جناحيه

الغطرسة ليست في الكلمات الكبيرة وحدها، بل في لحظةٍ خفيّة حين نظنّ أنّنا أفضل من غيرنا. لهذا يقول الحقّ سبحانه

"ولا تمشِ في الأرضِ مَرَحًا إنَّكَ لَن تخرِقَ الأرضَ ولَن تبلُغَ الجبالَ طولًا – [الإسراء:37]

هذه الآية تُذكّرنا بأنّ الألوان التي نحملها على أكتافنا لا تصنع قامةً أطول، ولا تمنح روحنا وزنًا أثقل

صوت الحكمة: أقوال خالدة عن التواضع

لمّا سُئِل أبو يزيد البسطامي عن الطريق إلى الله قال

طرَقتُ كلَّ بابٍ، فوجدتُهُ مُغلقًا، إلّا بابَ التواضُع

وفي لحظة أخرى همس جلال الدين الرومي

كُن كالنهرِ في السَّخاءِ، وكالأرضِ في التواضُع، وكالشمسِ في الرحمة

هذه الكلمات ليست وعظًا بل مفاتيحُ تُخبرنا أنّ الأنا سياجٌ يحجب عنّا اتساع السماء

رحلة الريشة الأخيرة: إسقاط الأقنعة

الريشة الأخيرة رمزٌ لتلك النقطة التي نصل فيها إلى مفترق الطرق: إمّا أن نتمسّك بمظاهرنا أو نختار أن نكون أحرارًا

التحرّر يبدأ عندما نقول لأنفسنا
لستُ بحاجةٍ إلى أن أكون الأجمل، ولا أن أُرضي الجميع. يكفيني أن أكون صادقًا مع قلبي

حينها يبدأ القيد بالتفكّك، ويصبح التواضع صديقًا للقوّة، لا علامة ضعف

بين العلو والانكسار

من المفارقات العجيبة أنّ الإنسان يعلو حين ينكسر كبرياؤه. فحين ننحني لله تُرفَع أرواحنا فوق الجبال

وَعِبادُ الرَّحمنِ الّذينَ يَمشونَ على الأرضِ هَونًا – [الفرقان:63]

هذه الهُوْنة ليست ضعفًا، بل هي جمالُ القلب حين يدرك أنّ الأرض كلّها مسرحٌ للرحمة لا للصراع

التخلّي كفنّ للحرية

لكي نصل إلى صفاء الروح، علينا أن نتعلّم فنّ التخلّي: التخلّي عن صورةٍ نرسمها لأنفسنا في أعين الناس، عن حاجةٍ إلى أن نُثبت أنّنا الأفضل

قال الرومي

حين تخلّيتُ عن كوني أنا، صِرتُ كلَّ شيء

التحرّر الحقيقي هو حين لا نعود بحاجةٍ إلى إطراء أحد، وحين نرى في كلّ إنسانٍ مرآةً لما يُمكن أن نكون عليه من طيبة

خطوات عملية لخلع ريش الأنا

للقراء الذين يسعون للتحوّل، إليكم مسارًا بسيطًا

  • الاعتراف بالأنا: لا تحاربها، بل انظر إليها كما تنظر إلى طفلٍ يحتاج إلى النضج

  • الصمت اليومي: خصّص عشر دقائق لتجلس بلا هاتف أو موسيقى، تستمع لأنفاسك فقط

  • العطاء السرّي: افعل خيرًا لا يعلم به أحد، فهذا يُضعف حاجة الأنا للتفاخر

  • شكر النِّعم: اكتب كل صباح ثلاث نعم صغيرة تشعر بالامتنان لها

  • التأمل في الزوال: تذكّر أنّ كل ريشة جمالٍ أو مجدٍ ستذبل يومًا، لكن ما في القلب يبقى

حين تذبل الريشة الأخيرة

ليس في ذبول الريشة موت، بل ميلاد جديد. عندما يرحل التفاخر يشرق فينا السلام الداخلي

يقول الحسن البصري

ما ازدادَ عبدٌ تواضعًا للهِ إلّا رفعَهُ الله

إنها سنّة الحياة: من تواضع رفعه الله، ومن تكبّر سقط تحت ثقل غروره

رسالة إلى قلبك

يا قارئي العزيز، قد لا تكون طاووسًا بألوانٍ باذخة، لكن كلّنا نحمل ريشًا خفيًّا من رغبة الظهور. حين تدرك أنّك لست تلك الريشات، بل الروح التي تحرّكها، تبدأ الحكاية الأجمل

مَن تواضَعَ للهِ رفعَهُ الله، ومن تكبَّرَ وضَعَهُ الله – حديث نبوي شريف

دع هذه الكلمات تكون دليلك لعبور الجسر نحو سلامٍ داخليّ لا تهزّه الأحكام ولا تُثقله نظرات الآخرين

ولادة بلا زهو

إنّ ريشة الطاووس الأخيرة ليست عن فقدان الجمال، بل عن ولادةِ جمالٍ أصدق
هي دعوة لأن نخلع عنّا ما يثقّل أرواحنا، وأن نلتقي بأنفسنا الحقيقية بلا أقنعة

حين تتعلّم الروح أن ترقص خفيفةً بلا ريشٍ ولا تيجان، تكتشف أنّ ألوان الفجر أجمل من كلّ زينة، وأنّ الله أقرب إلى قلبٍ متواضع من كلّ مظاهر الرفعة

Next
Next

اليقطين: ركضتُ قبلك لأمهد لك الطريق