اليقطين بين الحقيقة واليقين

اليقطين

في مسيرته نحو النور، لا يبحث “اليقطين” عن مجدٍ أو شهرةٍ، بل عن رضا الله وحده
هو السائر على طريقٍ يملؤه الدعاء والتسبيح، يُدرك أن الله وحده هو الحق، وأن القرب منه هو الغاية التي لا تعلوها غاية
فكل خطوةٍ يخطوها، وكل نَفَسٍ يتنفسه، إنما يبتغي به وجه الله، تصديقًا لقوله تعالى
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين [الحجر: 99]

الحقيقة التي تُمهّد لليقين

الحقيقة أن تعلم أن الله هو الخالق، المدبّر، الرازق، لا شريك له
واليقين أن يستقر هذا العلم في قلبك حتى لا يضطرب مهما تبدّلت الأحوال
فـ“اليقطين” لا يطلب معرفةً فلسفية، بل طُمأنينةً إيمانية؛
يعبد الله كما أمره، لا طمعًا في الجنة فحسب، ولا خوفًا من النار فحسب، بل حبًا لله الذي خلقه ورزقه وهَداه

حين أنبت الله على يونس عليه السلام شجرة من يقطين بعد خروجه من بطن الحوت، كان ذلك آيةً على رحمته ولطفه
فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ [الصافات: 145-146]
كذلك يُنبت الله رحمته على عباده الصابرين، فيظلّهم بعنايته إذا لجأوا إليه مخلصين

عبادة الخاشعين

قال أبو يزيد البسطامي: لو أن العارفين لم يُؤمروا بالعبادة، لعبدوه حياءً منه
أي أن من عرف فضل الله عليه استحيا أن يعصيه
فاليقطين يعبد ربّه حبًّا وشكرًا، لا تكلّفًا ولا عادة، لأن العبادة في جوهرها صلةٌ بين العبد وربّه
هو يرى في كل صلاةٍ تجديدًا للعهد، وفي كل سجدةٍ عودةً إلى الأصل الذي خُلق منه: عبوديةٌ خالصة لله تعالى

قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا [الشمس: 9-10]
من زكّى نفسه بالطاعة، أفلح باليقين، ومن دسّاها بالمعصية، خسر نور البصيرة

من الظنّ إلى الإيمان

أكثر ما يحجب القلب عن اليقين هو سوء الظنّ بالله
فالذي يظنّ أن الله لا يراه، أو أنه بعيدٌ عنه، يعيش في قلقٍ دائم
أما المؤمن الحق، فيحسن الظنّ بربّه في كل حال، مصداقًا لقوله تعالى
وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ [الحديد: 4]
فمن أيقن بهذه المعية الإلهية، سكنت نفسه، وزال اضطرابه

اليقين إذن هو نور الإيمان حين يملأ القلب، فلا يخاف صاحبه مما كتب الله، ولا يحزن على ما فات، لأنه يعلم أن الله أرحم به من نفسه

سير القلوب إلى الله

كما وصف فريد الدين العطار رحلة الطيور نحو السيمرغ رمزيًا، فإنّ المؤمن يسير في رحلته نحو مرضاة الله وحده
كلّ محطةٍ في حياته هي امتحانٌ لصبره وصدقه، حتى يخلُص قلبه من التعلّق بغير الله
فاليقين لا يُنال بكثرة الكلام، بل بصدق العمل، وبالذكر الذي يطهّر القلب من الغفلة

وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت: 69]
فمن جاهد في طاعة الله، هداه الله إلى طريق الحقّ، ومن سعى إلى رضاه، وجد السكينة في قلبه

مقام اليقين

كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ [التكاثر: 5-7]
علم اليقين أن تُصدّق بما أخبر الله
وعين اليقين أن ترى آثار ذلك بعين قلبك
وحقّ اليقين أن تعيش وفقه بثباتٍ لا تزعزعه الفتن

فاليقطين لا يبحث عن رؤى أو مكاشفات، بل عن قلبٍ مطمئنٍّ بذكر الله
ذلك هو اليقين الذي وعد الله به المؤمنين: سكون القلب في العواصف، وثبات القدم في الطريق

حتى يأتيك اليقين

تأمل في قوله تعالى
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ
الآية تأمر بالعبادة المستمرة، لأن اليقين لا يُنال فجأة، بل يُؤتى من الله جزاءً للمجاهدين في الطاعة
فكل ركعةٍ إخلاص، وكل دعاءٍ رجاء، وكل دمعةٍ سبيل إلى نورٍ جديد

ومن لزم العبادة حتى يأتيه اليقين، لم يكن يقينه في نفسه، بل في وعد الله الحقّ الذي لا يخلف الميعاد

الصبر سبيل اليقين

وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة: 24]
فمن صبر على البلاء، ورضي بقضاء الله، منحه الله نور اليقين
اليقطين يتعلّم أن الصبر ليس سكوتًا على الألم، بل إيمانًا بأن الفرج بيد الله وحده، وأن كل شدةٍ هي بابٌ إلى لطفٍ خفيّ

الموت واليقين

فسّر بعض العلماء “اليقين” في الآية بأنه الموت، لأنه الحقيقة التي لا شك فيها
لكن العبد المؤمن يعلم أن الموت ليس انقطاعًا، بل انتقالٌ إلى وعد الله
فالذي عبد ربّه مخلصًا حتى أتاه اليقين، نال خير الدارين
طمأنينة في الدنيا، ورضوانًا في الآخرة

يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً [الفجر: 27-28]
تلك غاية اليقطين: أن يعود إلى ربه راضيًا، وقد عبد الله حتى امتلأ قلبه يقينًا

ثمار اليقين في الحياة

اليقين لا يُغيّر الواقع، بل يُغيّر نظرتك إليه
حين يُصبح القلب مؤمنًا بالله حقًّا، يرى في كل ابتلاءٍ حكمة، وفي كل تأخيرٍ لطفًا
فما عاد الخوف يملك عليه أمره، لأن من وثق بالله، لم يخف من المستقبل، ومن رضي بالله، لم يندم على الماضي

الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: 28]
فالطمأنينة ثمرة اليقين، واليقين ثمرة العبادة، والعبادة طريقٌ إلى محبة الله

اليقطين بين الحقيقة واليقين ليس عنوانًا فحسب، بل حالةٌ يعيشها كل مؤمنٍ يطلب وجه الله بصدق
فالحقيقة أن الله هو الواحد الحقّ، واليقين أن القلب يطمئن إلى هذا الحقّ فلا يلتفت إلى سواه
هو السالك الذي لا يرى في الكون إلا صنعة الخالق، ولا في البلاء إلا حكمة اللطيف، ولا في العبادة إلا نعمة القرب

فإذا قيل له: متى تصل؟
قال: ما دمت أعبد الله، فقد وصلت

وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ
أي حتى تلقى الله بقلبٍ مملوءٍ إيمانًا، مخلَصًا من الشكّ، ثابتًا على التوحيد

وحتى تضع رجلك على أول خطوات الطريق أنصحك بقراءة مقالتي خطوات العاشق في طريق الحب التي تعتبر من المقالات التي ساعدت الكثير ومهدت لهم الطريق للسير في طريق الحب

Previous
Previous

الاستمتاع في الحين حتى يحين

Next
Next

سَكَرَاتُ الطريق