خطوات العاشق في طريق الحب

اليقطين

الخطوة الأولى: النداء الإلهي
يبدأ طريق الحب بنداءٍ لا يسمعه إلا القلب الذي أرهقته كثرة الوجوه، وبات يطلب وجهًا واحدًا لا يزول. نداءٌ يشبه النسمة التي تمرّ على صدرٍ حائرٍ فتوقظه من غفلته، فيعلم أنه لم يُخلق ليجمع الأشياء، بل ليحب الله حبًّا يطهّره من التعلّق بكل ما سواه. الحب في أصله عبادة، ومن أحبّ الله صدقًا، أحبّ خلقه رحمةً لا رغبة، وامتلأ بنور الرضا

الخطوة الثانية: الحنين إلى الأصل
في أول الطريق، يشعر العاشق أن شيئًا في داخله يناديه، صوتًا خفيًّا يذكّره بأن له ربًّا خلقه لأجل المحبة، وأنّ كل ما في الدنيا لا يُشبع القلب إلا إذا امتلأ بحبّ الله. ذلك النداء هو بذرة الإيمان حين تسقيها الدموع الصادقة، فتورق وتثمر طمأنينة. فالعاشق الحقيقي لا يبحث عن مخلوقٍ يُكمله، بل عن خالقه الذي يُكمّل به كل شيء

الخطوة الثالثة: التخلّي
لا يمكن لقلبٍ مثقلٍ بحبّ الدنيا أن يسير في طريق الله. على العاشق أن يترك وراءه زوائد النفس، وأن يطهّر قلبه من حبّ الظهور، ومن الأنانية والغرور. قال أبو يزيد البسطامي: “ما وصلتُ إلى الله حتى تركتُ كلّ شيءٍ سواه.” فالعشق الإلهي لا يجتمع مع التعلّق بغير الله. من أراد النور، وجب أن يترك ما يحجبه عنه

الخطوة الرابعة: الصبر على نار الامتحان
طريق العشق ليس مفروشًا بالورود، بل يُمتحن فيه الصادقون. العاشق يُبتلى ليعرف صدقه، ويُختبر ليزداد قربًا. قال أحد العارفين: “من أحبّ الله، صبر على قضائه.” فكل ألمٍ يصيب العاشق في طريق الله، إنما هو نارٌ تصهر الشوائب ليبقى المعدن خالصًا. العاشق لا يشكو البلاء، بل يرى فيه تربيةً إلهية تُعيد تشكيله على قدر محبته.

الخطوة الخامسة: السُكر بالذكر
الذكر حياة القلوب، ووقود العشق. فمن أكثر من ذكر الله، فتح الله له أبواب القرب. حين يذكر العبد ربَّه بصدق، يملأ النور صدره، وتلين قساوة قلبه. الذاكر لا يكرّر ألفاظًا، بل يكرّر شوقًا. فكل تسبيحةٍ تصعد إلى السماء، تعود سلامًا في القلب. وفي لحظات الذكر، يشعر العاشق أن العالم كله يسكت ليسمعه، لأن في الذكر طمأنينةً لا تشبه شيئًا

الخطوة السادسة: المحبة في الخلق
كل من أحبّ الله حقًّا، أحبّ الناس، لأنهم عباده. لا يحمل في قلبه حقدًا، ولا يردّ السيئة بمثلها. يرى في كل مخلوقٍ أثرًا من رحمة الله، فيحسن إليه، ويعذره، ويعفو عنه. هكذا يتحوّل الحب إلى سلوكٍ يضيء الطريق: أن تحبّ دون غرض، وأن تعطي دون انتظار، وأن تدعو بالخير لمن آذاك. فهذا هو امتحان العاشقين الحقيقيين

الخطوة السابعة: الرضا بالقدر
حين يمتلئ القلب بحبّ الله، يرضى عن قضائه كلّه. الرضا لا يعني أن كل ما يحدث جميل، بل أن تدرك أن وراء كل شيءٍ حكمة. قال سهل التستري: “علامة الرضا أن لا تسخط على شيءٍ قضاه الله.” العاشق في هذا المقام يسكن قلبه السلام، لا يجزع، ولا يعترض، لأنه يعلم أن المحبوب لا يختار لعبده إلا ما فيه خيره، ولو خالف هواه

الخطوة الثامنة: الصفاء والفناء عن النفس
الفناء هنا ليس فناء الوجود، بل فناء الأنانية. أن يغيب عن قلبك حظّك، لتبقى إرادة الله وحدها. أن تعمل لا لتُرى، بل ليُرضى عنك. حين يتطهّر القلب من الأنا، يسكنه الله بالمحبّة، فيصبح العبد مرآةً تعكس الخير أينما حلّ. فمن صفا قلبه، رأى بنور الله، لا بعينه

الخطوة التاسعة: الرجوع إلى الناس برحمة
العاشق لا يعتزل الناس، بل يعود إليهم بعد الصفاء ليكون رحمةً وهدايةً. يعيش بينهم بقلبٍ متصلٍ بالله، وعينٍ تنظر بالرحمة، ولسانٍ لا يقول إلا خيرًا. قال أحد الصالحين: “أحبّ الخلق من كان نفعه للخلق.” فمن ذاق حلاوة القرب، عاد إلى الدنيا لا ليُنافس، بل ليُداوي. هو الساعي بين الناس لا بشعارٍ ولا دعوى، بل بابتسامةٍ وسكينةٍ تُطمئن القلوب

الخطوة العاشرة: المحبة الخالصة
في نهاية الطريق، تتنقّى المحبة من كل غرضٍ دنيوي. لا يطلب العاشق من الله إلا الله. لا يرجو ثوابًا ولا يخاف عقابًا، بل يحب لأنه لا يستطيع إلا أن يحب. حينذاك، يصبح الحبّ عبادة، والعبادة حبًّا. ويفهم القلب أن كل ما مرّ به من ألمٍ وشوقٍ وبُعدٍ، كان إعدادًا لرؤية النور بعين الرضا

الخطوة الحادية عشرة: السكون في القلب
في ختام الطريق، ينزل السكون في القلب كما ينزل المطر على أرضٍ عطشى. لا خوف، لا قلق، لا لهفة. إنه مقام الطمأنينة الذي وعد الله به المؤمنين الصادقين. قال تعالى: {الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله، ألا بذكر الله تطمئن القلوب}. في هذا السكون، يعرف العاشق أن الحب ليس طريقًا يُسار فيه، بل مقامًا يُسكن إليه. يعيش مطمئنًّا بين الناس، لأن الله في قلبه، والقلب في سلامٍ دائم

يا من تسير في طريق الحب، اعلم أن الخطوات ليست خارجة عنك، بل فيك. كل ألمٍ تمرّ به، هو درسٌ في الحب. وكل عثرةٍ تقع فيها، هي دعوةٌ إلى النهوض من جديد. العاشق الحقّ هو من جعل الله وجهته، ومحبتَه رايته، وذكرَه سكينته. فإن صدقتَ، أوصلك الله إليه، وإن أحببتَه، أحبّك الله حبًّا يملأ حياتك نورًا وطمأنينة

Next
Next

حين يورقُ القلب حبًّا